﴿ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ، كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ [ المائدة ].
جاء في تفسير ابن كثير: «يخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل ، من دهر طويل، فيما أنزله على داود نبيه، عليه السلام، وعلى لسان عيسى بن مريم، بسبب عصيانهم لله، واعتدائهم على خلقه. قال العوفي عن ابن عباس: لعنوا في التوراة والإنجيل، وفي الزبور، وفي الفرقان، ثم بيّن حالهم فيما كانوا يعتمدونه في زمانهم، فقال تعالى: ﴿كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ أي كان لا ينهى أحد منهم أحداً عن ارتكاب المآثم والمحارم، ثم ذمهم على ذلك ليحذر أن يركب مثل الذي ارتكبوه، فقال: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ روى أحمد عن النبي (صلى الله علية وسلم) : قال: «لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، قال يزيد: وأحسبه قال في أسواقهم، وواكلوهم، وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ﴿ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴾ وكان رسول الله (صلى الله علية وسلم) متكئاً، فجلس، فقال: «لا، والذي نفسي بيده، حتى تأطروهم على الحق أطراً». قال أبو داود، قال رسول الله (صلى الله علية وسلم) : «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل، فيقول: يا هذا، اتقِ الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله، وشريبه، وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ﴾ إلى قوله ﴿فاسقون﴾، ثم قال: «كلا والله، لتأمرُنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، ولتأخذُنَّ على يد الظالم، ولتأطرنَّهُ على الحق أطراً، أو تقصرُنَّه على الحق قصراً» كذا رواه الترمذي وابن ماجه... والأحاديث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جداً، ولنذكر منها ما يناسب هذا المقام. روى أحمد عن النبي (صلى الله علية وسلم) : «والذي نفسي بيده، لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لتدعنّه فلا يستجيب لكم». وروى مسلم: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان». وروى أحمد: «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانَيْهم، وهم قادرون على أن ينكروه، فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة». وروى أبو داود عن النبي (صلى الله علية وسلم) قال: «إذا عُمِلت الخطيئة في الأرض، كان من شهدها فكرهها، وقال مرة: فأنكرها، كان كمن غاب عنها. ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها». وروى أبو داود: «لن يهلك الناس حتى يعذروا أو يعذروا من أنفسهم». وروى ابن ماجه أن رسول الله (صلى الله علية وسلم) قام خطيباً، فكان فيما قال: «ألا لا يمنعن رجلاً هيبةُ الناس أن يقول الحق إذا علمه» قال فبكى أبو سعيد وقال: قد واللهِ، رأينا أشياء، فهبناه. وروى أبو داود والترمذي وابن ماجه: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» وروى ابن ماجه قال: قال رسول الله (صلى الله علية وسلم) : «لا يحقر أحدكم نفسه» قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: «يرى أمر الله فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله، يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا وكذا، فيقول: خشية الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى» وروى ابن ماجه أيضاً عن رسول الله (صلى الله علية وسلم) : «إن الله ليسأل العبد يوم القيامة، حتى يقول: ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله عبداً حجته، قال: يا ربِّ، رجوتك، وفرقت الناس». وكذلك روى ابن ماجه عن أنس بن مالك، قال: قيل: يا رسول الله، متى يترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؟ قال: «إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم». قلنا يا رسول الله، وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: «الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رُذّالكم».
وجاء في ظلال القرآن لسيد قطب بعد أن ذكر الآيات: «وهكذا يبدو أن تاريخ بني إسرائيل في الكفر والمعصية عريق، وأن أنبياءهم الذين أرسلوا لهدايتهم وإنقاذهم، هم في النهاية الذين تولوا لعنتهم وطردهم من هداية الله، فسمع الله دعاءهم، وكتب السخط واللعنة على بني إسرائيل...»، «ولم تكن المعصية والاعتداء أعمالاً فردية في مجتمع بني إسرائيل، ولكنها انتهت إلى أن تصبح طابع الجماعة كلها، وأن يسكت عنها المجتمع، ولا يقابلها بالتناهي والنكير ...».
«إن العصيان والعدوان قد يقعان في كل مجتمع من الشريرين، المفسدين، المنحرفين. فالأرض لا تخلو من الشر، والمجتمع لا يخلو من الشذوذ، ولكن طبيعة المجتمع الصالح لا تسمح للشر والمنكر أن يصبحا عرفاً مصطلحاً عليه، وأن يصبحا سهلاً يجترئ عليه كل من يهم به».
وبعد أن يذكر أن النصوص القرآنية والنبوية تترى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقول: «وهذا كله في حاجة إلى الإيمان الصحيح بالله، ومعرفة تكاليف هذا الإيمان، وإلى الإدراك الصحيح لمنهج الله، ومعرفة أنه يشمل كل جوانب الحياة، وإلى الجد في أخذ العقيدة بقوة، والجهد لإقامة المنهج الذي ينبثق منها في حياة المجتمع كله...»، «إن الجهد الأصيل، والتضحيات النبيلة يجب أن تتجه أولاً إلى إقامة المجتمع الخير... والمجتمع الخير هو الذي يقوم على منهج الله... قبل أن ينصرف الجهد والبذل والتضحية إلى إصلاحات جزئية، شخصية، وفردية، عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... إنه لا جدوى من المحاولات الجزئية حين يفسد المجتمع كله... وحين يقوم المجتمع على غير منهج الله، وحين يتخذ له شريعة غير شريعة الله، فينبغي عندئذٍ أن تبدأ المحاولة من الأساس... وأن يكون الجهد لتقرير سلطان الله في الأرض... وحين يستقر هذا السلطان يصبح الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، شيئاً يرتكن إلى الأساس».
إن كل النصوص التي ورد فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت تتحدث عن واجب المسلم في مجتمع مسلم، مجتمع يعترف ابتداء بسلطان الله، ويتحاكم إلى شريعته، مهما وجد فيه من طغيان الحكم في بعض الأحيان.. وهكذا نجد في قول الرسول (صلى الله علية وسلم) : «أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر» فهو «إمام»، ولا يكون إماماً حتى يعترف ابتداء بسلطان الله، وبتحكيم شريعته. فالذي لا يحكّم شريعة الله لا يقال له: «إمام» إنما يقول عنه الله سبحانه: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾ و ﴿الظالمون﴾ و ﴿الفاسقون﴾